• حيرة الثلاثين ..

    في وقتٍ يعِدُك فيه أغلب البالغين بأن غَمام حيرتكَ سينجلي تماماً ما إن تبلغ الثلاثين من عمرك، آتي لأشارككَ كيف وضعتْني الثلاثون على أرضٍ غير مستقرةٍ، و لفّتني بأقصى درجاتِ الضبابيةِ التي اختبَرتُها في حياتي..

    لقد قضيتُ جُلّ العشريناتِ من عمري في مصارعةٍ أكاديميةٍ لنيلِ شهادة الطب والجراحة، معتقدةً بأنه الطريقُ الذي سأقضي فيه بقية رحلتي الحياتية، وأنه المجالُ الأوحدُ الذي سأحمل مسؤولية النماء المعرفي فيه، مُسيّرةً بظنِّ أنه الكرسيُّ الأفضل لي في هذا العالم، و مقيّدةً نحوه بما يشبه اليقين.. حتى بدأت تعصف بذهني الأفكار المضادة التي لم تكن بالحسبان. كان الأمر ملازماً لبدء عملي كطبيبة، وحيث أُصيب العالم بجائحةٍ لم تتركنا كما جاءتنا، عِشنا خلالها ارتباكاً جمعياً غير معهود، و شمَلني الارتباك في نواحٍ عدة جعلتني أتساءل كل يومٍ ما إن كان هذا مكاني فعلاً.

    لم أدرِ إن كانت إجادتي للعمل كافية، ما إن كانت إشادة الفريق بجهدي وإخلاصي علامة، أو إن كانت ارتفاعات الأدرينالين -التي يُهديها لي عملي يومياً على طبق من ذهب- هي الدلالة التي توحي بما يجب علي التمسّك به. لكنني قررت خوض غمارٍ جديدةٍ، حيث لا ضير من أي تجربة لم تحرق لأجلها جسور العودة. وفي منتصف الثلاثين من عمري، كنت، ربما، أبدأ من جديد. في بلدٍ جديدٍ وجامعةٍ جديدةٍ وتخصصٍ جديدٍ، بدايةً نظيفةً، ربما أيضاً، إلا من أحمالِ وخبراتِ الثلاثين عاماً الفائتة. بدايةً كوّنتُ أثناءها معارفَ مدهشة و زدتُ فيها علماً بجهلي.

    أنهي اليوم عامي الدراسي الأول الذي مضى بسرعةٍ لا أقوى على استيعابِها، فقد حدث الكثيرُ في هذا العام -وما زال يحدث في ذهني على هيئة ذكريات وأفكار وتساؤلات-، وأغرق -في الوقت ذاته- بما يشبه التيه رغم جزمي بأنني على الطريق الصحيح. و لعلّه شعور يأتي طبيعياً مع هدأة العاصفة وسكون الزخم الذي منّت به عليّ هذه الشهور الحافلة، أو أنه الشعور الذي يأتيك حين يُخيّل إليك أنك مُحاط بالناجحين، أقرانك الذين قطعوا أشواطهم ووصلوا إلى غاياتهم وحصدوا أوسمتهم، بينما أنت تركض بلا غاية واضحة، ثم احتفل الجميع بينما ما زلتَ تركض.

    أقل ما أستطيع قوله هو أنني غير راضية، لكنني أستدرك لأقول بأن هذا الشعور ليس شعوراً غريباً أو سيئاً بالضرورة. ففي عالمٍ افتراضيٍ يوحي لك بأن الجميع قد وصل فعلاً، بينما أنت تجاهد لأجل أن تشقّ لك طريقاً فحسب، من السهل أن تشعر بطيفٍ عريضٍ من المشاعر، بين الانهزام والغبطة والتأخر والخديعة والمرارة. إنه عالمٌ إلكتروني فجّ، يُمعن بتذكيرك بما لم تستطع تحقيقه، أثناء إشغالك عن تحقيقه. لكنني، وفي استدراكٍ آخر، أذكّر نفسي كم أن المسارات الخطّية الأحادية التي يسلكها أغلب “الناجحين” لا تغريني كثيراً، وأن الوقت لم يفُت تماماً لتحقيق كل ما أرغب فيه، حتى وإن اتّسم مساري بالطول و بشيء من الفوضى.

    إني لا أتذكر نفسي الواعية إلا وهي ترسم الخطط، وأدرك -بمزيج من الدهشة والاستهجان- أن خطتي المكتوبة الأولى كانت أهدافاً طفوليةً على كُرّاسٍ مدرسيٍ قبل أن أبلغ العاشرة. عقدانِ من الزمانِ لم يكونا كافيين لتنفيذ الخطط وتحقيق الأحلام، و لم يكونا كافيين حتماً للوصول. أعود لأتساءل: لماذا؟ وأفكر كم أنها كانت عادةً قهريةً، لم أحقق بها الأهداف بقدر ما كوّنتُ بها وعياً يومياً -مخيفاً- بالأهداف التي أقوم بتأجيلها مذ كنت طفلة، و لاوعياً بأنني شخصٌ غير ملتزمٍ تجاه نفسهِ أو لا يتوقف عن كونه خيبة أمل لذاته. أقول ذلك وقد كنت يافعة متفوقة، عرَفَت الكثير عن نفسها وعمّا تحب فعله مبكراً، وخلَقت سيرةً جيدةً قدر استطاعتِها، إلا أنني أرى فيها ذلك النقص الذي يُلقي بظلاله عليّ في الثلاثين. و أظنني أقسو على نفسي شيئاً ما، أو كثيراً.

    لا أدري -في الواقع- لمَ أكتب هذه التدوينة، ولماذا أنشرها.. غير أنني أعلم كم أحرجني -في هذا العام- إدراك عدد الكتب المعرفية الأساسية التي لم أقرأها بعد، رغم أنني “قارئة” قديمة. ثم كم ألهمني أن أرى سبعينياً يجاورني في الصف الدراسي، يلفّ حضوره برسالةٍ مفادها أنّ سَعينا نحو المعارف لا يجب أن يتوقف قط، وأن وجودنا في هذه الدنيا يتضمن أن نفعل ما بوسعنا فعله، حالما يدفعنا إليه فضولنا العارم أو تسيّرنا نحوه الفرص الفريدة.. أن التوقيت غير مهم بالضرورة، وأن الأعمار أرقام لا تعني شيئاً حقيقياً بمعزل عن المعنى الذي تقرّره لها أنت. رسالةٌ موجهةٌ للثلاثينية القلِقة التي يأكلها الشعور بالذنب، متسارعةُ الفؤادِ حيث يجدر بها أن تتعلم السَكينة ومجاراة التيار.

    لن أقول هنا -مواسيةً- أنك إن تأتِ (متأخراً) فهو خير من ألّا تأتي أبداً.. فما هو التأخير في سياق لا يعني فيه مرور السنوات أمراً مفصلياً حقاً؟ لكنني -ربما- أدعو نفسي والقارئ الكريم أن نمارس حياتنا بشيء من الحضور والأناة، وأن نعفو عن أنفسنا فيما نعتقد بأنها معارك خرجنا منها خاسرين -مما خلّف وقتاً ضائعاً. في قصة حياتك التي قد تمتد إلى الثمانين والتسعين من العمر، لن تكون تخبطاتك في العشرين حاسمة، بل إنها -في كثير من الأحيان- مهمةٌ على عدد من الأصعدة. أما الثلاثين، فهي -كما أظن- الفترة المناسبة لتُطلق طموحك الجامح، ممزوجاً بالنضج الكافي وشيءٍ من التفاؤل، لتحرر نفسك من ألم الماضي وخوف المستقبل.

  • السماعة الشبح.. في أن تكون طبيباً سابقاً.

    طبيب يحلّق بجناحين في السماء

    عودة للمقاعد

    أخرج من مسكني لأسير إلى محطة الباص، وأركب في مقعدٍ أماميٍ استعداداً للخروج منه عند الوصول إلى محطة القطار. أسير لمزيد من الوقت للّحاق بالقطار الذي يوصلني للجامعة، أجلس على مقعد مناسب، وأتحسس -لا واعيةً- كتفي الأيمن. ها أنا أفعل ذلك مجدداً.

    لقد عدت إلى مقاعد الدراسة التي تلقّفتني بلهفة بعد أن أدمنت الوقوف في قسم الطوارئ الذي لا يهدأ، و عادت لي فرصة الجلوس مجدداً كي أقدر على القراءة والتعلّم والتأمل. مرّت قرابة الشهور الستة منذ مارستُ الطب لآخر مرة، إلا أن عقلي ما زال يربط خروجي اليومي من المنزل بالذهاب إلى العمل. ذلك المكان الذي قضيت فيه أربع سنوات متّصلة و بالحدّ الأدنى من الإجازات، والذي رافقتني إليه -يومياً- سماعة طبيب ملقاة على كتفي الأيمن، تترنح بعض الشيء في أشد الأيام انشغالاً، إلا أنها لا تفشل في أن تمنحني الثبات والثقة.

    الطرف الشبح

    (phantom limb) هو الاسم الذي يطلق على شعور من بُتر له طرف لكنه ما زال يشعر بوجوده، ويبدو أن سمّاعتي أضحت طرفاً شبحاً يلقي بظلّه على صباحاتي. أن تكون طبيباً سابقاً يعني أن ترى العالم والعلوم بنظرة الطبيب إلى الأبد، وأن تراودك -بين الحين والآخر- كوابيس المرضى الذين لا تملك لهم سريراً فارغاً، أو أن ينقطع نومك في أحد الأيام حين تفتح عينيك في هلع، خشية أن يكون وقت المناوبة الليلية قد فاتك. إنها ظاهرة تشبه أحلام امتحانات الثانوية التي تفاجئك بعد سنوات طويلة من انتهائها، تلك التي لم تستعد لها ثم أضعت قلمك ووصلت إلى القاعة متأخراً لترى في الأوراق ما يشبه الطلاسم، الأحلام التي ستبقى تزورك إلى أن تتجاوز الخمسين من عمرك.

    مقبرة الأذكياء

    مررت قبل مدة بفيديو مقتطع لشخص يقول بأن مجال الطب هو مقبرة الأذكياء، وأنه حقل لا يتطلب جهداً عقلياً مُرضياً لمن يحب شحذ ذهنه. لا أدري فعلاً إن كنت أتفق مع هذه العبارة أو أختلف معها، فما اجتذبني لطب الطوارئ مبدئياً كان ذلك الشعور المُرضي بأنني أحلّ لغزاً عند استكشافي لعلّة كل مريض، الأمر الذي يبعث فيك روحاً من الأدرينالين كلّما كانت تنبؤاتك صادقة. إلا أن خاطري كان يضيق مرةً بعد أخرى كلّما شعر بنفسه حبيساً في قفص الطبابة للأبد، بعيداً جداً عن كل ما يهواه من اهتمامات أخرى، غارقاً ومنشغلاً بهذا البحر الواسع من الأعراض والأمراض ولا شيء آخر. كان ذلك الحد الضيق من المعارف في الواقع أشبه بالمقبرة.

    الإنسان في جانبه الآخر

    حظيت بفرصة العمر للدراسة في إحدى أعرق الجامعات. ولو أخبرتَ تلك الطبيبة المجهدة التي تنتظر مرور ساعات عملها الثمان بصبرٍ يوشك على النفاد، أنها ستكون في الضفة الأخرى من العالم بعد زمن ليس بالطويل، تختار من العلوم ما يوافق هواها، وتتعلم المزيد لأجل أن تتعلم فحسب، وأنها تستطيع أن تضمّ إلى معرفتها الطبية معارف أخرى لا تقبل الحصر، فأنا لا أظن أنها بالمُصدّقة لك.

    اخترتُ أن أدرس شيئاً جديداً عن الإنسان، من الصفر. شيئاً لا يلمس تركيبته المادية وما يعتريه من أمراض فحسب، بل يسبر أغوار ذاته وميوله وتطوره وتاريخه وحضارته. سعياً نحو نشوة الصورة الكاملة التي تعتري عقلي متى ما شعر أنه وجد المكان الصحيح للقطعة الصحيحة في الأحجية. و بي أمل عريض للوصول إلى معارف متعددة وإيصالها للغير، يوماً ما. إلا أنني في هذه اللحظة سأتأمل صورة المقال -التي أنشأتُها بالذكاء الاصطناعي- فقط، لأذكّر قلبي بسعادة الانعتاق.


    إن أعجبك هذا المقال، وكنت مهتماً بالمعرفة الطبية، فألقِ نظرة على هذا المقال الذي تناولتُ فيه مرض السكري بطريقة مختلفة.

  • في جسمك أقفال ومفاتيح.. كيف يتصرف داء السكري بداخل جسدك؟

     

    مقدمة:

    حين تتناول وجبةً تحتوي على الكاربوهيدرات، وبعد انتهاء العملية الهضمية بامتصاصِ المواد الغذائية عبر جدار الأمعاء، تسلك هذه الجزيئات من طعامك طريقاً إلى أوعيتك الدموية على هيئة سكّرٍ بسيط البُنية (جلوكوز). إن الجلوكوز هو مصدر الطاقة الرئيس لأعمال جسدك، والوقود الأساسي الذي يحرك الخلايا في أعمالها الدؤوبة، غير أنه بحاجة لعبور بوّابات هذه الخلايا -مترامية الوجود بين دماغك وقلبك وعضلاتك وسائر أجزائك الحيوية- عن طريق هرمون يسمى (الإنسولين)، يفرز بشكل طبيعي من عضو يقع بجوار المعدة يُدعى (البنكرياس)، ويرافق جزيئات السكّر في رحلتها نحو تغذية الخلية.

    هرمون البوّابة:

    ضمن مجموعة من المواد المساعدة في عملية الهضم، يفرز البنكرياس أيضاً هرمون الإنسولين الذي يقوم بدور هامٍ في عملية الأيض، فهو يملك مفتاحاً حصرياً يمكّنه من فتح بوابة كل خلية برفقة حصيلة من السكّر، يغذي بها هذه الخلايا ويمكّنها بذلك من أعمالها اليومية على مدار الساعة، كما يقدّر فائض احتياجنا من السكّر لتخزينه في الكبد كطاقة احتياطية. بلا إنسولين، يكون الجلوكوز غير ذي فائدة، فهو يدور في حلقات مفرغة بداخل الأوعية الدموية، ملتصقاً بكريّات الدم، دون أن يستطيع عبور جدار الوعاء أو اختراق الأنسجة ليؤدي دوره في خدمة الخلايا. هذا بالضبط هو ما يحدث عندما يصاب المرء بمرض السكري.

    لداء السكري عدة أنواع، أشهرها ما يسمى بالنوعين الأول والثاني. أما النوع الأول، فيختلّ فيه البنكرياس عند المصاب يافع السنّ لأسباب مجهولة، أو معلومة كالإصابة بفايروس أو اضطراب في أنظمة الجسم المناعية، الأمر الذي يجعله متوقفاً بالتالي عن إفراز الإنسولين. و يعالج هذا النوع بالإنسولين التعويضي مدى الحياة، عن طريق الإبر اليومية أو المضخة المؤتمَتَة. أما النوع الثاني، وهو محلّ تركيزنا في هذا المقال، فيختلف بعض الشيء في الميكانيكية والعلاج. حيث تتظافر عوامل عدة في تقليل حساسية الإنسولين أو تقليل كميّته في مجرى الدم.

     

    القفل الصدئ:

    تخيل معي شخصاً نهِماً يتناول السكريات بلا هوادة، و ضع معي عدسَتَك على بنكرياسه المنهك، وهو يلهث في محاولات شاقة لاستكمال احتياج هذا الجسد من الإنسولين. إن بوّابات خلاياه لم تعد تفتح جيداً، ومفاتيح الإنسولين لم تعد فعّالة لتلك الأقفال التي أضحت مُمانِعة للفتح، صدئةً لفرط تعرّضها للسكّر. تدعى هذه الحالة “مقاومة الإنسولين”، وتشكّل السمنة -خاصة في منطقة محيط البطن- عاملاً رئيساً في احتمال الإصابة بها، إضافة إلى قلة النشاط البدني، التاريخ العائلي للإصابة بالسكري، التقدم في السن، وعوامل أخرى.

    أما ما قد يسببه هذا الداء المزمن من مضاعفات، فيمتدّ -كما احتياج الخلايا للجلوكوز- إلى كل عضو في جسم الإنسان. فالارتفاع المزمن لسكر الدم هو ذو علاقة وثيقة بأمراض الكلى المزمنة، و بأمراض القلب والشرايين، حيث يتسبب حيناً بتضيّق تدريجي في الأوعية الدموية -مما قد يؤدي لارتفاع ضغط الدم أو التجلطات-، و حيناً آخر باضطراب كهربائية القلب، بعد أن يعبث بأعصابه ضمن عدد من الاعتلالات العصبية عبر الجسد.

    حين تعتلّ الأعصاب البصرية بفعل ارتفاع السكر، يصاب المرء بضعف البصر أو العمى. وحين تعتلّ أعصاب الأطراف، يشعر المريض فيها بالوخز أو الخدر، الأمر الذي يجعله أكثر عرضة للإصابات -الجروح أو الحروق- التي لا يألَم لها ولا يشعر بوجودها، فتكون أكثر عرضةً للالتهاب. ناهيك عن أن نظام مكافحة الالتهابات -الذي تقوم به كريات الدم البيضاء- هو عند المصاب بالسكري أضعف بكثير، لذا فقد تتحول الجروح الطفيفة بسهولة في هذه الحالة إلى عدوى غير قابلة للتعافي، تستلزم بتر الطرف المصاب.

    متى تزور الطبيب؟

    قد تظهر أعراض ارتفاع السكر في الدم على شكل ازدياد في العطش والرغبة في التبوّل. يصاب البعض كذلك بازدياد -غير معتاد- في الجوع، انخفاض في الطاقة أو فقد للوزن. غير أن الأعراض قد تستغرق سنوات طويلة من ممانعة الإنسولين وارتفاع الجلوكوز حتى تظهر، وفي بعض الحالات المتقدمة من السكري، قد لا يلتفت المصاب للتغيرات الطارئة على جسمه، حتى يضعف بصره أو يجرّب -للأسف- جرحاً عصياً على الشفاء.

    متى راودتك أعراض مشابهة، فعليك زيارة الطبيب لاختبار السكر التراكمي -وهو اختبار يَشي بكمية السكّر المغلّف لكريات دمك الحمراء عبر الشهور الثلاثة الفائتة-، الأمر الذي يجعلك -إلى جانب عدة اختبارات ثانية- واعياً بموقعك في نطاق الإصابة بمرض السكري. فإن كنتَ مصاباً، بدأ الطبيب علاجك -غالباً- بأقراص تخفض شيئاً من سكّر دمك وتحسّن بعضاً من حساسية أقفالك لمفاتيح الإنسولين. وإن كنت في مرحلة ما قبل السكري، فأن تتعاهد جسمك بالحمية الغذائية والجهد الرياضي المعتدل لَهو خير سبيل لتلافي الإصابة بهذا الداء.

    وتذكّر دائماً أن “درهم وقاية خير من قنطار علاج”.

    _______________________________

    المراجع:

    جميع صور المقالة مُنشأة بالذكاء الصناعي.

    إن أعجبتك هذه المقالة، أدعوك إلى قراءة مقالتي السابقة هنا عن مفهوم الاستعاضة الحسّية.

  • “أترى حين أفقأ عينيك، (وأقول: انظر بلسانك)، هل ترى؟”

    القارئ الأعمى

    تقلب الصفحة، فتتراءى لك الخطوط المتلاصقة والمتراصة في سطور.

    خط ينحني على سطره ويحمل نقطة، يُدعى حرفاً، ويلتقي بخط آخر ممدود للأعلى أو معقود حول نفسه. يحطّ عليها بصرك فتصدر في ذهنك تراكبيةً من الأصوات الفريدة، وتتهافت الأصوات -التي تراها بعينيك- فتنسدل الكلمات مكوّنةً في عقلك صورة. أنت في الواقع تفعل ذلك الآن، في هذه اللحظة. أتأمّلتَ مرةً في الدهشة المنوطة بفعل القراءة؟

    لكنني اليوم لن أتحدث عما يدور بين عينيك وذهنك حين تقرأ، بل ألفت نظرك إلى شاب يجلس بجوارك.. مغمضاً عينيه، يقلب -هو الآخر- صفحة، ويمد أطراف أصابعه على نقاط بارزة موزعة في نسَق، فيصدر ذهنه تلك الأصوات، تلك المفاهيم، يبتسم لِلمسة إصبع ويعبس لأخرى، ويسرع في تمرير بنانه على السطور متى ما تشوّق للحدث التالي أو للفكرة الجديدة. هو في تلك الأثناء يقرأ، مثلك تماماً.

    أتحدث اليوم عن الاستعاضة الحسية، وعن عقلك الذي لا يبالي من أين جاءته المعطيات، أمن عينيك أم من أطراف أصابعك.

    نبذة عن الاستبدال الحسي sensory substitution

    لقد كانت لغة برايل فتحاً عظيماً لفاقدي البصر، وللراغبين بالقراءة ممن لا تعينهم أعينهم على ذلك. لكنها -ويا للدهشة- ليست الوسيلة الوحيدة التي استطاع فيها الإنسان أن يستعيض عن فقده لحاسّة، بحاسّة أخرى مختلفة تماماً، تشغل مكانها الخالي بجودة فائقة، وتتيح لمستخدمها إدراك الحقائق ذاتها عبر سلوك طريق مختلف.

    يستعيض الأصم عن فقده للسمع برؤيته للغة الإشارة، حيث تشغل العين مكان الأذن، فتمثّل كل حركة يراها صادرةً من يدَي محدّثه رمزاً ومفهوماً وقناةً للتواصل. ويستطيع الأعمى أن يتخيل شكلاً حين ترسمه بإصبعك على يده أو على ظهره، فكأنما شغَل الجلد مكان العين.

    الأمر الذي يجعلنا نسترجع كيف أصبحنا نستخدم هذه الحواس منذ البداية، حين كنا رُضّعاً ذوي رؤية تدريجية الوضوح، نتلقى الصور والأصوات ونرجّح -بعقولنا الصغيرة حينها- وجود معنى وراءها، يُعيننا في ذلك دماغنا الذي ينمو بسرعة المعجزة، ويكتسب مهارات التحليل والربط  مع كل محفز. غير أننا مع مرور الوقت، وبعد اكتسابنا لهذه المهارات -التي تصبح تلقائية-، لا نعود محتاجين لهذا الربط الواعي بين المحفز والمعنى، بين الصوت والصورة ومفاهيمها، فعقلنا يقوم بذلك لوحده، كما أن مرونته تتيح لمن فقد حاسة أن يستعيض عنها بأخرى ليتلقى نفس المفاهيم.

    تكنولوجيا الحس البديل

    ليست فكرة الاستبدال الحسي جديدة، فقد لاحظ العلماء منذ عقود قدرة الصمّ على الاستدلال على وجود الصوت عن طريق شعورهم بموجات الاهتزاز. و تعلّمت شخصيات تاريخية بارزة مثل هيلين كيلر -النابغة الأمريكية الفاقدة لحاستي السمع والبصر- عدة لغات ونالت شهادة جامعية، من جامعة هارفارد العريقة، عن طريق حاسة اللمس فحسب. كان الأمر أشبه بانسداد مجرى الماء، حيث يعجز المحفز الخارجي عن الوصول إلى الدماغ لغياب حاسة معينة، فيتعامل تجاه ذلك بتمرير الماء عبر مجرى حسيّ آخر.

    إلا أن ما حدث حالَما أصبحت التكنولوجيا جزءاً رئيسياً من حياتنا هو أشبه بالخيال العلمي.

    إذ صنع العلماء قطعة توضع في الفم، موصولة بنظارات تحمل عدسة كاميرا، تتلقى منها الصور المحيطة وتحيلها إلى وخزات كهربائية منظومة على اللسان، فيترجمها الدماغ إلى ما يشبه الصورة تماماً. و سواراً يمكّن الأصم من السمع، فهو يتلقى الأصوات ويحيلها إلى ذبذبات يفهمها الدماغ كما يفهم الصوت بالضبط. تَمكّن من خلالها الصمّ، ليس من استشعار الاهتزازات فقط، بل من تمييز الأصوات عن بعضها البعض كذلك، فمع وقت من التمرين تقبّلت عقولهم هذا المعطى الجلديّ كبديل عن الصوت المُدخل من القناة السمعية.

    كان المرء حين يفقد واحداً من أطرافه، يستعيض عنه بطرف صناعي بسيط الفاعلية، لكن ذلك لم يكن كافياً لطموحنا التكنولوجي الذي لم يعد محدوداً. فقد ابتكر العلماء سواراً ينقل ما يشبه الإحساس من الطرف الصناعي إلى الدماغ، فيعين بذلك ذا الرجل الصناعية على المشي القويم حيث يشعر بها كما يشعر برجله الحقيقية، و يعين صاحب اليد الصناعية على استخدامها بفاعلية مذهلة.

    يتعدى الأمر ذلك حين يطرح العلماء فكرة استخدام هذه التقنية في الاستعانة على الإجراءات الجراحية عن طريق الروبوت، فحين يستخدم الجراح جهازاً حسياً يشعر أثناءه بالمريض، ويتلقى به الإشارات البصرية عن مسار العملية، فهو مستوى جديد متقدم و مختلف عن كل ما شهدناه من تقدّم علمي حتى اللحظة.

     

    إلا أن تكون تلك بوابة كوابيسنا باتجاه حلقة مشابهة من مسلسل المرآة السوداء Black Mirror.

     


    اقتبست العنوان -بتصرّف- من قصيدة أمل دنقل الشهيرة: لا تصالح، اطّلع عليها هنا إن لم تكن قرأتَها من قبل.

    و إن أعجبك هذا المقال، اقرأ مقالي الآخر عن خلاصة تجربتي كطبيبة طوارئ هنا.

  • على سرير الطوارئ: مريضك غير النموذجي ..

    مَن منّا لا يحبّه مريضاً نموذجياً؟

    يجيء بشكوى واضحةٍ لا غبار عليها.. بعشر نقاطٍ مكتملة في Alvarado Score، أو مثلثٍ تامٍ لالتهاب القناة الصفراوية، أو ST مرتفعة في تخطيط القلب، لا تخطئها العين، مع مريضٍ متعرقٍ متقطّع الأنفاسٍ، يعتصر ألماً ويضغط بكفّه على صدره.

    و مَن منّا يحبّه مريضاً محيّراً؟ يشكو علَّةً مبهمةً لا تسكن بالدواء ولا تفسَّر بالفحوصات، ترتدي نتائج دمه رداءاً بالغ الخُضرة، ويقبع على سريرٍ ينتظره فوجٌ من المرضى الآخرين، فيضعك مكتوفَ اليدينِ في منطقةٍ رماديةِ اليقين مصبوغةٍ بالارتياب ومؤجَّلةِ القرار.

    طبيب يقف مكتوف اليدين

    -Image by Freepik

    لا أنساها ولا تغادر مخيّلتي.. تلك الشابة التي عولجت لنقص الحديد بأكياس وريدية من الحديد، مراراً وتكراراً في سنتين متتاليتين. بلا مزيدٍ من التدقيق، حيث أن فقر الدم عند الشابات هو أكثر شيوعاً من أن يعاد النظر فيه. إلى أن جاءت للطوارئ تشكو ألماً عنيداً ومزمناً بالبطن، طفيفاً حيث لم يرَ طبيبٌ من قبل حاجته للاستكشاف. ممسكةً بصفحات تحوي تقريراً أعجمياً:

    “أجريتُ بالأمسِ منظاراً على حسابي في مستشفى آخر، لكنهم لم يعلموني بالنتيجة.”

    لقد كانت تحمل تقرير إصابتها بسرطان القولون. تلك المريضة التي لم تكن رجلاً ستّينياً يشكو الإمساك المزمن المتلازم مع فقر الدم -كي تؤخذ احتمالية إصابته بهذا الورم على نحو البداهة-. هي لم تكن -بأيّ حالٍ- مريضةً نموذجية.

    في رتم غرفة الطوارئِ السريع وفي خضمّ عشرات المرضى، يسهل أن تسهو عن شيءٍ وأن تفوتك أشياء. ولأنك في كل الأحوال أول من يرى المريض، وفي كثيرٍ منها آخر من يراه..

    إليكَ خمس نصائحٍ مما تعلمتُه في سنوات عملي:

    • خذ المزيد من التاريخ المرضيِّ قدر ما تستطيع: قد لا يسنح الوقت لذلك دائماً، إلا أن مفتاحاً مهماً -لحالة مريضك- قد يكمن في وراثةٍ عائليةٍ، عادةٍ يومية، نمطٍ غذائي، أو عمليةٍ جراحيةٍ أُجريت في فترة الطفولة.
    • راجع مصادرك: يميل التشخيص الصائب لحالة المريض أن يكون هو التشخيص الأكثر شيوعاً، إلا أن ذلك ليس صحيحاً في 100% من الوقت. حين يراودك الشك الإكلينيكي، أو عدم الارتياح لما يبدو عليه مريضك، اقرأ نبذةً في أحد مصادرك الطبية المختصرة. فقد تلفت نظرك إلى ما يجب عليك التدقيق فيه.
    • لا تتجاهل الزيارات المتكررة: حين يخرج المريض من المستشفى ثم يعود ثانيةً بنفس الشكوى، فقد يكون هناك ما يدعو لتمحيص النظر. و حين تشهد في فحوصاته نمطاً غير اعتيادي، فهناك حتماً ما لم تسبر أغواره. أعد تقييم الحالة ولا تفترض دائماً صحة التشخيص السابق ما لم يدعم بأدلة قطعية.
    • عينٌ أخرى قد ترى ما لا تراه: تبنى معرفتنا الطبية عادةً على خبراتنا السابقة، و تنزع أحكامنا فيها على ما اعتادت عليه أذهاننا. لا تتردد في طلب المشورة من زميلٍ لك، فقد يعرف أو يرى ما لم يخطر ببالك.
    • شارك مريضك بما ينبغي له بعد الخروج: إن آل مريضك في نهاية زيارته للطوارئ لكونه مُراجعاً راضياً.. فلا بد من مشاركته بما يستدعي رجوعه إليك لرعاية عاجلة، أو بما يستوجب متابعةً دورية في العيادات المتخصصة لمزيد من التقييم.

    دمتم و دام مرضاكم بعافية .


    حقوق الصورة البارزة: Joshua ChehovUnsplash