في وقتٍ يعِدُك فيه أغلب البالغين بأن غَمام حيرتكَ سينجلي تماماً ما إن تبلغ الثلاثين من عمرك، آتي لأشارككَ كيف وضعتْني الثلاثون على أرضٍ غير مستقرةٍ، و لفّتني بأقصى درجاتِ الضبابيةِ التي اختبَرتُها في حياتي..
لقد قضيتُ جُلّ العشريناتِ من عمري في مصارعةٍ أكاديميةٍ لنيلِ شهادة الطب والجراحة، معتقدةً بأنه الطريقُ الذي سأقضي فيه بقية رحلتي الحياتية، وأنه المجالُ الأوحدُ الذي سأحمل مسؤولية النماء المعرفي فيه، مُسيّرةً بظنِّ أنه الكرسيُّ الأفضل لي في هذا العالم، و مقيّدةً نحوه بما يشبه اليقين.. حتى بدأت تعصف بذهني الأفكار المضادة التي لم تكن بالحسبان. كان الأمر ملازماً لبدء عملي كطبيبة، وحيث أُصيب العالم بجائحةٍ لم تتركنا كما جاءتنا، عِشنا خلالها ارتباكاً جمعياً غير معهود، و شمَلني الارتباك في نواحٍ عدة جعلتني أتساءل كل يومٍ ما إن كان هذا مكاني فعلاً.
لم أدرِ إن كانت إجادتي للعمل كافية، ما إن كانت إشادة الفريق بجهدي وإخلاصي علامة، أو إن كانت ارتفاعات الأدرينالين -التي يُهديها لي عملي يومياً على طبق من ذهب- هي الدلالة التي توحي بما يجب علي التمسّك به. لكنني قررت خوض غمارٍ جديدةٍ، حيث لا ضير من أي تجربة لم تحرق لأجلها جسور العودة. وفي منتصف الثلاثين من عمري، كنت، ربما، أبدأ من جديد. في بلدٍ جديدٍ وجامعةٍ جديدةٍ وتخصصٍ جديدٍ، بدايةً نظيفةً، ربما أيضاً، إلا من أحمالِ وخبراتِ الثلاثين عاماً الفائتة. بدايةً كوّنتُ أثناءها معارفَ مدهشة و زدتُ فيها علماً بجهلي.
أنهي اليوم عامي الدراسي الأول الذي مضى بسرعةٍ لا أقوى على استيعابِها، فقد حدث الكثيرُ في هذا العام -وما زال يحدث في ذهني على هيئة ذكريات وأفكار وتساؤلات-، وأغرق -في الوقت ذاته- بما يشبه التيه رغم جزمي بأنني على الطريق الصحيح. و لعلّه شعور يأتي طبيعياً مع هدأة العاصفة وسكون الزخم الذي منّت به عليّ هذه الشهور الحافلة، أو أنه الشعور الذي يأتيك حين يُخيّل إليك أنك مُحاط بالناجحين، أقرانك الذين قطعوا أشواطهم ووصلوا إلى غاياتهم وحصدوا أوسمتهم، بينما أنت تركض بلا غاية واضحة، ثم احتفل الجميع بينما ما زلتَ تركض.
أقل ما أستطيع قوله هو أنني غير راضية، لكنني أستدرك لأقول بأن هذا الشعور ليس شعوراً غريباً أو سيئاً بالضرورة. ففي عالمٍ افتراضيٍ يوحي لك بأن الجميع قد وصل فعلاً، بينما أنت تجاهد لأجل أن تشقّ لك طريقاً فحسب، من السهل أن تشعر بطيفٍ عريضٍ من المشاعر، بين الانهزام والغبطة والتأخر والخديعة والمرارة. إنه عالمٌ إلكتروني فجّ، يُمعن بتذكيرك بما لم تستطع تحقيقه، أثناء إشغالك عن تحقيقه. لكنني، وفي استدراكٍ آخر، أذكّر نفسي كم أن المسارات الخطّية الأحادية التي يسلكها أغلب “الناجحين” لا تغريني كثيراً، وأن الوقت لم يفُت تماماً لتحقيق كل ما أرغب فيه، حتى وإن اتّسم مساري بالطول و بشيء من الفوضى.
إني لا أتذكر نفسي الواعية إلا وهي ترسم الخطط، وأدرك -بمزيج من الدهشة والاستهجان- أن خطتي المكتوبة الأولى كانت أهدافاً طفوليةً على كُرّاسٍ مدرسيٍ قبل أن أبلغ العاشرة. عقدانِ من الزمانِ لم يكونا كافيين لتنفيذ الخطط وتحقيق الأحلام، و لم يكونا كافيين حتماً للوصول. أعود لأتساءل: لماذا؟ وأفكر كم أنها كانت عادةً قهريةً، لم أحقق بها الأهداف بقدر ما كوّنتُ بها وعياً يومياً -مخيفاً- بالأهداف التي أقوم بتأجيلها مذ كنت طفلة، و لاوعياً بأنني شخصٌ غير ملتزمٍ تجاه نفسهِ أو لا يتوقف عن كونه خيبة أمل لذاته. أقول ذلك وقد كنت يافعة متفوقة، عرَفَت الكثير عن نفسها وعمّا تحب فعله مبكراً، وخلَقت سيرةً جيدةً قدر استطاعتِها، إلا أنني أرى فيها ذلك النقص الذي يُلقي بظلاله عليّ في الثلاثين. و أظنني أقسو على نفسي شيئاً ما، أو كثيراً.
لا أدري -في الواقع- لمَ أكتب هذه التدوينة، ولماذا أنشرها.. غير أنني أعلم كم أحرجني -في هذا العام- إدراك عدد الكتب المعرفية الأساسية التي لم أقرأها بعد، رغم أنني “قارئة” قديمة. ثم كم ألهمني أن أرى سبعينياً يجاورني في الصف الدراسي، يلفّ حضوره برسالةٍ مفادها أنّ سَعينا نحو المعارف لا يجب أن يتوقف قط، وأن وجودنا في هذه الدنيا يتضمن أن نفعل ما بوسعنا فعله، حالما يدفعنا إليه فضولنا العارم أو تسيّرنا نحوه الفرص الفريدة.. أن التوقيت غير مهم بالضرورة، وأن الأعمار أرقام لا تعني شيئاً حقيقياً بمعزل عن المعنى الذي تقرّره لها أنت. رسالةٌ موجهةٌ للثلاثينية القلِقة التي يأكلها الشعور بالذنب، متسارعةُ الفؤادِ حيث يجدر بها أن تتعلم السَكينة ومجاراة التيار.
لن أقول هنا -مواسيةً- أنك إن تأتِ (متأخراً) فهو خير من ألّا تأتي أبداً.. فما هو التأخير في سياق لا يعني فيه مرور السنوات أمراً مفصلياً حقاً؟ لكنني -ربما- أدعو نفسي والقارئ الكريم أن نمارس حياتنا بشيء من الحضور والأناة، وأن نعفو عن أنفسنا فيما نعتقد بأنها معارك خرجنا منها خاسرين -مما خلّف وقتاً ضائعاً. في قصة حياتك التي قد تمتد إلى الثمانين والتسعين من العمر، لن تكون تخبطاتك في العشرين حاسمة، بل إنها -في كثير من الأحيان- مهمةٌ على عدد من الأصعدة. أما الثلاثين، فهي -كما أظن- الفترة المناسبة لتُطلق طموحك الجامح، ممزوجاً بالنضج الكافي وشيءٍ من التفاؤل، لتحرر نفسك من ألم الماضي وخوف المستقبل.