
استمعت قبل قرابة العام إلى قصيدة ابن زيدون الضاديّة التي لحّنها وأنشدها مشاري العفاسي (استمع هنا)، وصار هذا النشيد ملازماً لسمعي لمدة ليست بالقصيرة. يتميز بحر القصيدة المتقارب بإيقاع جميل فيه من السرعة، ومعانٍ قوية فيها من المُباشَرة، ونغم متكرر فيه من الجاذبية، وقافية ضاد ساكنة جازمة، ما جعلني أتساءل -مستغربة- عمّا جعل هذه القصيدة غير ذائعة الصيت، وقد يكون السبب هو أن الغلبة في قصائد ابن زيدون كانت (لنونيّته) الأكثر شيوعاً. إلا أنني بعد فترة من الإدمان على هذا الاستماع، ومتابعة المعاني التي أدرجها صاحب مقطع اليوتيوب مشكوراً، تعطشت إلى مزيد من المعنى، وبحثت فلم أجد مكاناً واحداً يضم شرحاً وافياً للقصيدة. ناهيك عن أن أداء العفاسي -في بعض مواضعه- كان يوحي لي بمعانٍ لم أظنها صحيحة.
حين تقرأ حكاية هذا الشعر، ستدرك كم أنه مشحون عاطفياً، فقد كتبه ابن زيدون الأندلسي للوزير أبو عامر بن عبدوس بعد أن “سرق” منه حبيبته ولّادة بنت المستكفي. لا أعرف جيداً طبيعة العلاقة بين ابن زيدون وابن عبدوس قبل دخولهما في مثلث الحب هذا، ولم أجد في التراث ما يوضّح ذلك حقاً، إلا أن القصيدة تشير إلى أيامٍ كانت فيها علاقتهما قوية، وتوحي إلى صداقةٍ دمّرتها الرغبة بالحظوة على ولّادة. كانت ولّادة أميرة لعوباً، وقد شهد مجلسها الشعريّ في قرطبة عدداً من قصص الغرام والمنافسة والغيرة والمناوشات، خاصةً بين الغريمين ابن زيدون وابن عبدوس. وفي هذه القصيدة مشهد من مشاهد هذه المنافسة، يقف فيها ابن زيدون على منبر الوعيد والهجاء، رغم أن خطابه لا يخلو من التذكير والعتاب، مما يوحي لنا بملمح من طبيعة العلاقة بين الرجلين: هل سرق ابن عبدوس حبيبة صديقه فعلاً؟ وهل تمثّل هذه القصيدة فورة غضب ابن زيدون وعتابه الحقيقي لصديقه السابق؟
“أَثَرتَ هِزَبرَ الشَرى إِذ رَبَض
وَنَبَّهتَهُ إِذ هَدا فَاغتَمَض
وَما زِلتَ تَبسُطُ مُستَرسِلاً
إِلَيهِ يَدَ البَغيَ لَمّا انقَبَض
حَذارِ حَذارِ فَإِنَّ الكَريمَ
إِذا سيمَ خَسفاً أَبى فَاِمتَعَض
فَإِنَّ سُكونَ الشُجاعِ النَهوسِ
لَيسَ بِمانِعِهِ أَن يَعَضّ
وَإِنَّ الكَواكِبَ لا تُستَزَلُّ/تُستَذلّ
وَإِنَّ المَقاديرَ لا تُعتَرَض
إِذا ريغَ/زِيعَ فَليَقتَصِد مُسرِفٌ
مَساعٍ يُقَصِّرُ عَنها الحَفَض
وَهَل وارِدُ الغَمرِ مِن عِدِّهِ
يُقاسُ بِهِ مُستَشِفُّ البَرَض
إِذا الشَمسُ قابَلتَها أَرمَداً
فَحَظُّ جُفونِكَ في أَن تُغَضّ”
يبدأ ابن زيدون قصيدته ببعض الاستعراض، فهو أسد الغاب الذي يجثم هادئاً ساكناً لولا يد ابن عبدوس التي تمتدّ لإغاظته بشكل متكرر. ثم -في تحذير سريع- يوضّح على من تقع الملامة: فالكريم قد يحلم ويعفو لكنه إن تعرّض لما يمسّ كرامته فهو يأبى الهوان ويبطش بالمسيء، والكائن المفترس وإن بدا منه السكون، فلا مانع من أن يهاجم متى ما استفزّه أحد. ثم يذكّره بأن الكواكب لا تُخفض، والأقدار لا تُعترض، وأن الأجدر بالمسيء -المسرف في إساءته والجاهل للمقام العالي الذي يعجز عنه أراذل الناس- أن يرتدع ويكفّ. يسأل ابن زيدون من باب التحقير: وهل يقاس مَن يرِد الماء من منبعٍ وافر بمن لا يحصل إلا على قليل الماء الباقي في الإناء؟ إنّ بيننا من هو عظيم ومن هو حقير، ولو قابلتَ عظيماً (كالشمس) وأنت (أرمد) فعليك أن تغضّ بصرك لألّا تعمى.
“أَرى كُلَّ مُجرٍ/بحرٍ أَبا عامِرٍ
يُسَرُّ إِذا في خَلاءٍ رَكَض
أُعيذُكَ مِن أَن تَرى مِنزَعي
إِذا وَتَري بِالمَنايا انقَبَض
فَإِنّي أَلينُ لِمَن لانَ لي
وَأَترُكُ مَن رامَ قَسري/قَصري حَرَض
وَكَم حَرَّكَ العُجبُ مِن حائِنٍ
فَغادَرتُهُ ما بِهِ مِن حَبَض”
هنا يستعرض ابن زيدون المزيد، فيقول أن الحصان إذا ركض في الخلاء وحده فهو مرتاحٌ لأنه بلا منافس، أما أنا فأعيذك من أن تراني بجوارك جاذباً الأسهم في قوسي لإطلاقها، لأن سهامي تعني المنيّة. فأنا قد ألين لمن يلين لي، لكنني لا أترك من يسعى لقهري إلا وهو مشرف على الهلاك. وكم من معجب بنفسه، متوهّم بحماقة أنه يقدر على إيذائي، غادرتُه وهو صريع لا يقوى على شيء.
“أَبا عامِرٍ أَينَ ذاكَ الوَفاءُ
إِذِ الدَهرُ وَسنانُ وَالعَيشُ غَضّ
وَأَينَ الَّذي كُنتَ تَعتَدُّ مِن
مُصادَقَتي الواجِبَ المُفتَرَض
تَشوبُ وَأَمحَضُ مُستَبقِياً
وَهَيهاتَ مَن شابَ مِمَّن مَحَض
أَبِن لي أَلَم أَضطَلِع ناهِضاً
بِأَعباءِ بِرِّكَ فيمَن نَهَض
أَلَم تَنشَ مِن أَدَبي نَفحَةً
حَسِبتَ بِها المِسكَ طيباً يُفَضّ
أَلَم تَكُ مِن شيمَتي غادِياً
إِلى تُرَعٍ ضاحَكَتها فُرَض
وَلَولا اختِصاصُكَ لَم أَلتَفِت
لِحالَيكَ مِن صِحَّةٍ أَو مَرَض
وَلا عادَني مِن وَفاءٍ سُرورٌ
وَلا نالَني لِجَفاءٍ مَضَض
يَعِزُّ اِعتِصارُ الفَتى وارِداً
إِذا البارِدُ العَذبُ أَهدى الجَرَض“
تجعلنا هذه الأبيات -المصبوغة بالكثير من الخيبة- نتساءل عن العلاقة السابقة بين ابن زيدون وابن عبدوس، وعن مدى الشرخ الذي أحدثته ولّادة حين خان أحد الصديقين صديقه. يتحسّر ابن زيدون على زمن الوفاء، ويتغنّى بالأيام الراغدة التي عاشاها قبل هذا الصدع، ويسأل عمّا كان ابن عبدوس يسمّيه واجب الصداقة. يقول: تخلط ما بيننا بالشوائب وأستبقي أنا الود صافياً، و شتّان بين الفعلين. أخبرني ألم أسعَ في برّك مع البارّين؟ ألم يكن أدبي تجاهك زكياً وطيّباً؟ ألم تجد صفاتي عذبة كأنك تُجالس معها أجمل مظاهر الطبيعة؟ إنني لولا قربك لي لم أهتمّ لأمرك، ولا سعدت للوفاء أو توجّعت للجفاء. ولكن كيف للإنسان أن يزيل غصّته إن كان الماء البارد العذب هو ما جعله يغصّ؟
“عَمَدتَ لِشِعري وَلَم تَتَّئِب/تتَّئد
تُعارِضُ جَوهَرَهُ بِالعَرَض
أَضاقَت أَساليبُ هَذا القَريضِ
أَم قَد عَفا رَسمُهُ فَاِنقَرَض
لَعَمري لَفَوَّقتَ سَهمَ النِضالِ
وَأَرسَلتَهُ لَو أَصَبتَ الغَرَض
وَشَمَّرتَ لِلخَوضِ في لُجَّةٍ
هِيَ البَحرُ ساحِلُها لَم يُخَض
وَغَرَّكَ مِن عَهدِ وَلّادَةٍ
سَرابٌ تَراءى وَبَرقٌ وَمَض
تَظُنُّ الوَفاءَ بِها وَالظُنونُ
فيها تَقولُ عَلى مَن فَرَض
هِيَ الماءُ يَأبى عَلى قابِضٍ
وَيَمنَعُ زُبدَتَهُ مَن مَخَض
وَنُبِّئتُها بَعدِيَ اِستُحمِدَت
بِسِرّي إِلَيكَ لِمَعنىً غَمَض”
يتمالك ابن زيدون نفسه بعد شيء من الانكسار الذي أبداه في المقطع السابق، ويعود لتأنيب ابن عبدوس الذي حاول معارضة شعره القيّم بشعر ركيك لا ملامح له. فكأنه حاول إصابة ابن زيدون بالسهام فأخطأه، وكأنه شمّر ثيابه ليخوض في بحر أعمق من قدرته. كل ذلك -يقول ابن زيدون- لأنك اغتررت بولّادة ووعودها الكاذبة ووصالها الأشبه بالسراب، فأنت تعتقدها وفيّة، إلا أنها كالماء، لا يحكم قبضته عليها أحد، وكاللبن الذي لا يعطي أحداً زبدته ولو مخضه. وقد بلغني أنها -كذلك- باحت بأسراري إليك، لأغراض تخفيها في نفسها.
“أَبا عامِرٍ عَثرَةً فَاِستَقِل
لِتُبرِمَ مِن وُدِّنا ما اِنتَفَض
وَلا تَعتَصِم ضَلَّةً بِالحِجاجِ
وَسَيِّم/سلِّم فَرُبَّ اِحتِجاجٍ دُحِض
وَإِلّا اِنتَحَتكَ جُيوشُ العِتابِ
مُناجِزَةً في قَضيضٍ وَقَضّ
وَأَنذِر خَليلَكَ مِن ماهِرٍ
بِطِبِّ الجُنونِ إِذا ما عَرَض
كَفيلٍ بِبَطِّ خُراجٍ عَسا
جَريءٍ عَلى شَقِّ عِرقٍ نَبَض
يُبادِرُ بِالكَيِّ قَبلَ الضَمادِ
وَيُسعِطُ بِالسَمِّ لا بِالحُضَض
وَأَشعِرُهُ أَنّي اِنتَحَبتُ البَديلَ
وَأُعلِمهُ أَنّي اِستَجَدتُ العِوَض
فَلا مَشرَبي لِقِلاهُ أَمَرَّ
وَلا مَضجَعي لِنَواهُ أَقَضّ
وَإِنَّ يَدَ البَينِ مَشكورَةٌ
لِعارٍ أَماطَ وَوَصمٍ رَحَض
وَحَسبِيَ أَنّي أَطَبتُ الجَنى
لِإِبّانِهِ وَأَبَحتُ النَفَض
وَيَهنيكَ أَنَّكَ يا سَيِّدي
غَدَوتَ مُقارِنَ ذاكَ الرَبَض”
تختم القصيدة بقوّة كما بدأتها، إلا أن ابن زيدون يبدو فيها متقلب الفكر مضطرب الشعور. فهو من جهة يدعو غريمه للصلح، ومن جهة أخرى يظهر جانباً من كبريائه وحنقه ومقدرته على الإذلال. يقول ابن زيدون: يا أبا عامر، لقد كانت هذه نزوة فاعتذر لي لأغفر لك ونعيد صداقتنا كما كانت، ولا تلزَم الجدل فكثير من الحجج باطلة. إلّا تفعل ذلك فجيوش من اللوم هي في طريقها نحوك. ثم إن عليك إنذار خليلتك (ولّادة) منّي: طبيب يقدر على علاج الجنون، جريء على إحداث الشقوق الجراحية في أي قرح وعلى أي عِرق نابض، لا يضمّد الجرح بل يكويه بالنار، ولا يعالج بالدواء بل بالسمّ. أخبرها كذلك أنني وجدتُ بديلاً، خيراً منها، فلا شَرابي متعكّر لبُعدها ولا نومي متكدر لهجرها. بل أشكر هذا الفراق بيننا لأنه أزال عنّي عارَها. يكفيني أنني استمتعت بخير ما فيها وتركت الفضلات لغيري، وهنيئاً لك -يا ابن عبدوس- بما تركتُه لك في حظيرة الماشية.
يجدر بالذكر أنها ليست المرّة الأولى التي يهين فيها ابن زيدون ابن عبدوس بمثل هذه الإهانة، فله من الشعر ما يقول فيه:
“قالوا أَبوعامِرٍ أَضحى يُلِمُّ بِها
قُلتُ الفَراشَةُ قَد تَدنو مِنَ النارِ
عَيَّرتُمونا بِأَن قَد صارَ يَخلُفُنا
فيمَن نُحِبُّ وَما في ذاكَ مِن عارِ
أَكلٌ شَهِيٌّ أَصَبنا مِن أَطايِبِهِ
بَعضاً وَبَعضاً صَفَحنا عَنهُ لِلفارِ”
وفي ذلك إهانة جليّة لابن عبدوس ولولّادة على حدٍّ سواء. إلا أن ما يثير اهتمامي في الضاديّة هو هذا التقلّب الذي يجعل ابن زيدون يحنّ حيناً ويفور حيناً آخر، ويصفح حيناً ويتهجّم حيناً آخر، وينفّس عن ذلك كله بحديثه الداخلي الموزون شعراً، والذي لم يبعث به لصديقه السابق فحسب، بل شارَكنا به ليكشف لنا شيئاً من تعقيدات النفس وتموّجاتها.
ــــــــــــــــــ
- استعنت في نقل القصيدة وفي هذا الشرح (بصفحة القصيدة في موقع الديوان) وبكتاب (ديوان ابن زيدون ورسائله) للأستاذ علي عبدالعظيم.








