“أترى حين أفقأ عينيك، (وأقول: انظر بلسانك)، هل ترى؟”

القارئ الأعمى

تقلب الصفحة، فتتراءى لك الخطوط المتلاصقة والمتراصة في سطور.

خط ينحني على سطره ويحمل نقطة، يُدعى حرفاً، ويلتقي بخط آخر ممدود للأعلى أو معقود حول نفسه. يحطّ عليها بصرك فتصدر في ذهنك تراكبيةً من الأصوات الفريدة، وتتهافت الأصوات -التي تراها بعينيك- فتنسدل الكلمات مكوّنةً في عقلك صورة. أنت في الواقع تفعل ذلك الآن، في هذه اللحظة. أتأمّلتَ مرةً في الدهشة المنوطة بفعل القراءة؟

لكنني اليوم لن أتحدث عما يدور بين عينيك وذهنك حين تقرأ، بل ألفت نظرك إلى شاب يجلس بجوارك.. مغمضاً عينيه، يقلب -هو الآخر- صفحة، ويمد أطراف أصابعه على نقاط بارزة موزعة في نسَق، فيصدر ذهنه تلك الأصوات، تلك المفاهيم، يبتسم لِلمسة إصبع ويعبس لأخرى، ويسرع في تمرير بنانه على السطور متى ما تشوّق للحدث التالي أو للفكرة الجديدة. هو في تلك الأثناء يقرأ، مثلك تماماً.

أتحدث اليوم عن الاستعاضة الحسية، وعن عقلك الذي لا يبالي من أين جاءته المعطيات، أمن عينيك أم من أطراف أصابعك.

نبذة عن الاستبدال الحسي sensory substitution

لقد كانت لغة برايل فتحاً عظيماً لفاقدي البصر، وللراغبين بالقراءة ممن لا تعينهم أعينهم على ذلك. لكنها -ويا للدهشة- ليست الوسيلة الوحيدة التي استطاع فيها الإنسان أن يستعيض عن فقده لحاسّة، بحاسّة أخرى مختلفة تماماً، تشغل مكانها الخالي بجودة فائقة، وتتيح لمستخدمها إدراك الحقائق ذاتها عبر سلوك طريق مختلف.

يستعيض الأصم عن فقده للسمع برؤيته للغة الإشارة، حيث تشغل العين مكان الأذن، فتمثّل كل حركة يراها صادرةً من يدَي محدّثه رمزاً ومفهوماً وقناةً للتواصل. ويستطيع الأعمى أن يتخيل شكلاً حين ترسمه بإصبعك على يده أو على ظهره، فكأنما شغَل الجلد مكان العين.

الأمر الذي يجعلنا نسترجع كيف أصبحنا نستخدم هذه الحواس منذ البداية، حين كنا رُضّعاً ذوي رؤية تدريجية الوضوح، نتلقى الصور والأصوات ونرجّح -بعقولنا الصغيرة حينها- وجود معنى وراءها، يُعيننا في ذلك دماغنا الذي ينمو بسرعة المعجزة، ويكتسب مهارات التحليل والربط  مع كل محفز. غير أننا مع مرور الوقت، وبعد اكتسابنا لهذه المهارات -التي تصبح تلقائية-، لا نعود محتاجين لهذا الربط الواعي بين المحفز والمعنى، بين الصوت والصورة ومفاهيمها، فعقلنا يقوم بذلك لوحده، كما أن مرونته تتيح لمن فقد حاسة أن يستعيض عنها بأخرى ليتلقى نفس المفاهيم.

تكنولوجيا الحس البديل

ليست فكرة الاستبدال الحسي جديدة، فقد لاحظ العلماء منذ عقود قدرة الصمّ على الاستدلال على وجود الصوت عن طريق شعورهم بموجات الاهتزاز. و تعلّمت شخصيات تاريخية بارزة مثل هيلين كيلر -النابغة الأمريكية الفاقدة لحاستي السمع والبصر- عدة لغات ونالت شهادة جامعية، من جامعة هارفارد العريقة، عن طريق حاسة اللمس فحسب. كان الأمر أشبه بانسداد مجرى الماء، حيث يعجز المحفز الخارجي عن الوصول إلى الدماغ لغياب حاسة معينة، فيتعامل تجاه ذلك بتمرير الماء عبر مجرى حسيّ آخر.

إلا أن ما حدث حالَما أصبحت التكنولوجيا جزءاً رئيسياً من حياتنا هو أشبه بالخيال العلمي.

إذ صنع العلماء قطعة توضع في الفم، موصولة بنظارات تحمل عدسة كاميرا، تتلقى منها الصور المحيطة وتحيلها إلى وخزات كهربائية منظومة على اللسان، فيترجمها الدماغ إلى ما يشبه الصورة تماماً. و سواراً يمكّن الأصم من السمع، فهو يتلقى الأصوات ويحيلها إلى ذبذبات يفهمها الدماغ كما يفهم الصوت بالضبط. تَمكّن من خلالها الصمّ، ليس من استشعار الاهتزازات فقط، بل من تمييز الأصوات عن بعضها البعض كذلك، فمع وقت من التمرين تقبّلت عقولهم هذا المعطى الجلديّ كبديل عن الصوت المُدخل من القناة السمعية.

كان المرء حين يفقد واحداً من أطرافه، يستعيض عنه بطرف صناعي بسيط الفاعلية، لكن ذلك لم يكن كافياً لطموحنا التكنولوجي الذي لم يعد محدوداً. فقد ابتكر العلماء سواراً ينقل ما يشبه الإحساس من الطرف الصناعي إلى الدماغ، فيعين بذلك ذا الرجل الصناعية على المشي القويم حيث يشعر بها كما يشعر برجله الحقيقية، و يعين صاحب اليد الصناعية على استخدامها بفاعلية مذهلة.

يتعدى الأمر ذلك حين يطرح العلماء فكرة استخدام هذه التقنية في الاستعانة على الإجراءات الجراحية عن طريق الروبوت، فحين يستخدم الجراح جهازاً حسياً يشعر أثناءه بالمريض، ويتلقى به الإشارات البصرية عن مسار العملية، فهو مستوى جديد متقدم و مختلف عن كل ما شهدناه من تقدّم علمي حتى اللحظة.

 

إلا أن تكون تلك بوابة كوابيسنا باتجاه حلقة مشابهة من مسلسل المرآة السوداء Black Mirror.

 


اقتبست العنوان -بتصرّف- من قصيدة أمل دنقل الشهيرة: لا تصالح، اطّلع عليها هنا إن لم تكن قرأتَها من قبل.

و إن أعجبك هذا المقال، اقرأ مقالي الآخر عن خلاصة تجربتي كطبيبة طوارئ هنا.

One response to ““أترى حين أفقأ عينيك، (وأقول: انظر بلسانك)، هل ترى؟””

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *