عودة للمقاعد
أخرج من مسكني لأسير إلى محطة الباص، وأركب في مقعدٍ أماميٍ استعداداً للخروج منه عند الوصول إلى محطة القطار. أسير لمزيد من الوقت للّحاق بالقطار الذي يوصلني للجامعة، أجلس على مقعد مناسب، وأتحسس -لا واعيةً- كتفي الأيمن. ها أنا أفعل ذلك مجدداً.
لقد عدت إلى مقاعد الدراسة التي تلقّفتني بلهفة بعد أن أدمنت الوقوف في قسم الطوارئ الذي لا يهدأ، و عادت لي فرصة الجلوس مجدداً كي أقدر على القراءة والتعلّم والتأمل. مرّت قرابة الشهور الستة منذ مارستُ الطب لآخر مرة، إلا أن عقلي ما زال يربط خروجي اليومي من المنزل بالذهاب إلى العمل. ذلك المكان الذي قضيت فيه أربع سنوات متّصلة و بالحدّ الأدنى من الإجازات، والذي رافقتني إليه -يومياً- سماعة طبيب ملقاة على كتفي الأيمن، تترنح بعض الشيء في أشد الأيام انشغالاً، إلا أنها لا تفشل في أن تمنحني الثبات والثقة.
الطرف الشبح
(phantom limb) هو الاسم الذي يطلق على شعور من بُتر له طرف لكنه ما زال يشعر بوجوده، ويبدو أن سمّاعتي أضحت طرفاً شبحاً يلقي بظلّه على صباحاتي. أن تكون طبيباً سابقاً يعني أن ترى العالم والعلوم بنظرة الطبيب إلى الأبد، وأن تراودك -بين الحين والآخر- كوابيس المرضى الذين لا تملك لهم سريراً فارغاً، أو أن ينقطع نومك في أحد الأيام حين تفتح عينيك في هلع، خشية أن يكون وقت المناوبة الليلية قد فاتك. إنها ظاهرة تشبه أحلام امتحانات الثانوية التي تفاجئك بعد سنوات طويلة من انتهائها، تلك التي لم تستعد لها ثم أضعت قلمك ووصلت إلى القاعة متأخراً لترى في الأوراق ما يشبه الطلاسم، الأحلام التي ستبقى تزورك إلى أن تتجاوز الخمسين من عمرك.
مقبرة الأذكياء
مررت قبل مدة بفيديو مقتطع لشخص يقول بأن مجال الطب هو مقبرة الأذكياء، وأنه حقل لا يتطلب جهداً عقلياً مُرضياً لمن يحب شحذ ذهنه. لا أدري فعلاً إن كنت أتفق مع هذه العبارة أو أختلف معها، فما اجتذبني لطب الطوارئ مبدئياً كان ذلك الشعور المُرضي بأنني أحلّ لغزاً عند استكشافي لعلّة كل مريض، الأمر الذي يبعث فيك روحاً من الأدرينالين كلّما كانت تنبؤاتك صادقة. إلا أن خاطري كان يضيق مرةً بعد أخرى كلّما شعر بنفسه حبيساً في قفص الطبابة للأبد، بعيداً جداً عن كل ما يهواه من اهتمامات أخرى، غارقاً ومنشغلاً بهذا البحر الواسع من الأعراض والأمراض ولا شيء آخر. كان ذلك الحد الضيق من المعارف في الواقع أشبه بالمقبرة.
الإنسان في جانبه الآخر
حظيت بفرصة العمر للدراسة في إحدى أعرق الجامعات. ولو أخبرتَ تلك الطبيبة المجهدة التي تنتظر مرور ساعات عملها الثمان بصبرٍ يوشك على النفاد، أنها ستكون في الضفة الأخرى من العالم بعد زمن ليس بالطويل، تختار من العلوم ما يوافق هواها، وتتعلم المزيد لأجل أن تتعلم فحسب، وأنها تستطيع أن تضمّ إلى معرفتها الطبية معارف أخرى لا تقبل الحصر، فأنا لا أظن أنها بالمُصدّقة لك.
اخترتُ أن أدرس شيئاً جديداً عن الإنسان، من الصفر. شيئاً لا يلمس تركيبته المادية وما يعتريه من أمراض فحسب، بل يسبر أغوار ذاته وميوله وتطوره وتاريخه وحضارته. سعياً نحو نشوة الصورة الكاملة التي تعتري عقلي متى ما شعر أنه وجد المكان الصحيح للقطعة الصحيحة في الأحجية. و بي أمل عريض للوصول إلى معارف متعددة وإيصالها للغير، يوماً ما. إلا أنني في هذه اللحظة سأتأمل صورة المقال -التي أنشأتُها بالذكاء الاصطناعي- فقط، لأذكّر قلبي بسعادة الانعتاق.
إن أعجبك هذا المقال، وكنت مهتماً بالمعرفة الطبية، فألقِ نظرة على هذا المقال الذي تناولتُ فيه مرض السكري بطريقة مختلفة.